(صِفَاتِ اللهِ تعَالَى وأسمَائِهِ الحُسنَى❫ ..*
للشيخ: محمد بـن صـالح العثيمين - رحمه الله تعالىٰ
▣ تَنْبِيهٌ حَوْلَ تَفْسِيرِ السَّلَفِ لمَعيَّةِ اللهِ تَعَالَى لخَلْقِهِ: بأَنَّهُ مَعَهُمْ بعِلْمِهِ
✾ وَصَلْـنَـا إِلَىٰ قَوْلِ الْمُـؤَلِّـفِ - رَحِمَـﮧُ اللَّـﮧُ تعَالـﮯَ -:
⭘ وأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ بأنْوَاعِهَا: القَوليَّةُ، والفِعليَّةُ، والإقرارَيَّةُ، فِي أحَادِيثَ كَثِيرَةٍ تَبْلُغُ حَدَّ التَّواتُرِ، وَعَلَى وُجُوهٍ مُتنوِّعَةٍ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ فِي سُجُودِهِ: «سُبْحَان رَبِّيَ الْأَعْلَى»[1]، وقَولِهِ: «إِنَّ اللهَ لمَّا قَضَى الخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبي»[2]، وقولِهِ: «أَلَا تَأْمَنُونِي، وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟!»[3].
✑ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى المِنْبرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ يقُولُ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»[4]، وَأنَّهُ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّماءِ وَهُوَ يخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وأدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[5]، وأنَّهُ قَالَ للجَارِيَةِ: «أَيْنَ اللهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّماءِ. فأَقرَّهَا، وقَالَ لسَيِّدِهَا: «أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»[6].
⭘ وأمَّا العَقْلُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ صِفَةِ الكَمَالِ للهِ تَعَالَى، وتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقْصِ، والعُلوُّ صِفَةُ كمَالٍ، والسُّفْلُ نَقْص، فوَجَبَ للهِ تعَالَى صِفَةُ العُلوِّ، وتَنْزِيهُهُ عَنْ ضِدِّهِ.
⭘ وأمَّا الفِطْرَةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى عُلوِّ اللهِ تعَالَى دَلَالَةً ضَروريَّةً فِطْريَّةً، فَمَا مِنْ دَاعٍ أَوْ خَائِفٍ فَزِعَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرورَةَ الاتِّجَاهِ نَحْوَ العُلوِّ، لَا يَلْتَفِتُ عَنْ ذَلِكَ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً.
⭘ وأَمَّا الإجْمَاعُ فَقَدْ أجْمَعَ الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ والأئِمَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ تعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، مُستَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وكَلَامُهُمْ مَشْهُورٌ فِي ذَلِكَ نَصًّا وظَاهِرًا، قَالَ الأَوزَاعيُّ: «كُنَّا -والتَّابِعُونَ مُتَوافِرُونَ- نَقُولُ: إنَّ اللهَ -تعَالَى ذِكْرُهُ- فَوْقَ عَرْشِهِ، ونُؤمِنُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ»[7]، وَقَدْ نَقَلَ الإجمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْم، وَمُحَالٌ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ خِلَافٌ، وَقَدْ تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الأدِلَّةُ العَظِيمَةُ الَّتِي لَا يُخَالِفُهَا إلَّا مُكابِرٌ طُمِسَ عَلَى قَلْبِهِ، واجْتَالَتْهُ الشَّياطِينُ عَنْ فِطْرَتِهِ، نسأَلُ اللهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ والعَافِيَةَ.
☜ فعُلوُّ اللهِ تَعَالَى بذَاتِهِ وصِفَاتِهِ مِنْ أَبْيَنِ الأشْيَاءِ وأظْهَرِهَا دَلِيلًا، وَأَحَقِّ الأشْيَاءِ
[1]- أخرجه مسلم❪٧٧٢❫.
[2]- أخرجه البخاري❪٣١٩٤❫، ومسلم❪٢٧٥١❫.
[3]- أخرجه البخاري❪٤٣٥١❫، ومسلم❪١٠٦٤❫.
[4]- أخرجه البخاري❪١٠١٤❫، ومسلم ❪٨٩٧❫.
[5]- أخرجه مسلم❪١٢١٨❫.
[6]- أخرجه مسلم❪٥٣٧❫.
[7]- أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات»❪٨٦٥❫
▣ تَنْبِيهٌ حَوْلَ قَوْلِ المُؤَلِّفِ رحمه الله في بَعْضِ كِتَابَاتِهِ: إنَّ للهِ تعَالَى مَعيَّةً حقيقيَّةً ذَاتيَّةً تَلِيقُ بِهِ
✾ قَالَ الْـمُـؤَلِّــفُ -رَحِمَـﮧُ اللَّـﮧُ تعَالـﮯَ -:
◉ تَنْبِيهٌ ثَالِثٌ: اعْلَمْ -أيُّهَا القَارِئُ الكَرِيمُ- أنَّهُ صَدَرَ مِنِّي كِتَابَةٌ لبَعْضِ الطَّلَبَةِ تتضَمَّنُ مَا قُلْتُهُ فِي بَعْضِ المجَالِسِ فِي مَعيَّةِ اللهِ تعَالَى لخَلْقِهِ، ذَكَرْتُ فِيهَا أنَّ عقيدَتَنَا: أَنَّ للهِ تعَالَى مَعيَّةً حقيقيَّةً ذَاتيَّةً تَلِيقُ بِهِ، وتَقْتَضِي إحَاطَتَهُ بكُلِّ شَيْءٍ عِلمًا، وقُدرَةً، وسَمْعًا، وبَصَرًا، وسُلْطَانًا، وتَدْبِيرًا، وَأنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنزَّهٌ أَنْ يَكُونَ مُختَلِطًا بالخَلْقِ، أَوْ حَالًّا في أمكِنَتِهِمْ، بَلْ هُـوَ العَليُّ بذَاتِهِ وصِفَاتِهِ، وعُلوُّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتيَّةِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، وَأَنَّهُ مُستَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيـقُ بجَلَالِهِ، وأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي مَعِيَّتَهُ؛ لأَنَّهُ تعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
➢ وأردْتُ بقَولِي: «ذَاتيَّة» تَوكِيدَ حقيقَةِ مَعيَّتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ومَا أرَدْتُ أَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ في الأَرْضِ، كَيْفَ وَقَدْ قُلْتُ في نَفْسِ هَذِهِ الكِتَابَةِ كَمَا تَرَى: أنَّهُ سبْحَانَهُ مُنزَّهٌ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بالخَلْقِ، أَوْ حَالًّا في أمْكِنَتِهِمْ، وأَنَّهُ العَليُّ بذَاتِهِ وصِفَاتِهِ، وأنَّ عُلوَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتيَّةِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا؟! وقُلْتُ فِيهَا أيضًا مَا نَصُّهُ بالحَرْفِ الوَاحِدِ: «ونَرَى أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ بذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَهُوَ كَافِرٌ أَوْ ضَالٌّ إِنِ اعْتَقَدَهُ، وكَاذِبٌ إِنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيرِهِ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ أَوْ أئمَّتِهَا» اﻫ، وَلَا يُمْكِنُ لعَاقِلٍ عَرَفَ اللهَ، وقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللهَ مَعَ خَلْقِهِ فِي الأَرْضِ. وَمَا زِلْتُ وَلَا أَزَالُ أنْكِرُ هذا القَوْلَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِي جَرَى فِيهِ ذِكْرُهُ.
❍ وأسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنِي وَإخْوَاني المُسلِمِينَ بالقَوْلِ الثَّابتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وفي الآخِرَةِ.
⭘ هذا وَقَدْ كَتَبْتُ بَعْدَ ذَلِكَ مَقَالًا نُشِرَ فِي مجَلَّةِ ❪الدَّعوةِ❫ الَّتِي تَصْدُرُ فِي الرِّياضِ، نُشِرَ يومَ الاثْنَيْنِ الرَّابعِ مِنْ شَهْرِ مُحرَّمٍ سَنَةَ ١٤٠٤ﻫ أَرْبَعٍ وأَرْبَعِ مِئَةٍ وألْفٍ، بِرَقْمِ ❪٩١١❫ قَرَّرْتُ فِيهِ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُ الإسلَامِ ابْنُ تيمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-
☜ مِنْ أَنَّ معيَّةَ اللهِ تعَالَى لخَلْقِهِ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الحُلولَ والاخْتِلَاطَ بالخَلْقِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَستلْزِمَهُ، ورَأَيْتُ مِنَ الوَاجِبِ اسْتِبْعَادَ كَلِمَةِ «ذَاتيَّة»، وبَيَّنْتُ أَوْجُهَ الجَمْعِ بَيْنَ عُلوِّ اللهِ تَعَالَى وحقيقَةِ المعِيَّةِ.
✾ قَالَ الْـمُـؤَلِّــفُ -رَحِمَـﮧُ اللَّـﮧُ تعَالـﮯَ -:
↫ واعْلَمْ أنَّ كُلَّ كلِمَةٍ تَسْتلْزِمُ كَونَ الله تعَالَى فِي الأَرْضِ، أَوِ اختِلَاطَهُ بمخْلُوقَاتِهِ، أَوْ نَفْيَ عُلوِّهِ، أَوْ نَفْيَ استِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ممَّا لَا يَلِيقُ بِهِ تعَالَى، فإنَّهَا كَلِمَةٌ بَاطِلَةٌ، يجِبُ إنكَارُهَا عَلَى قَائِلِهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ، وبأَيِّ لَفْظٍ كَانَتْ، وكُلُّ كَلَامٍ يُوهِمُ -وَلَوْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ- مَا لَا يَلِيقُ باللهِ تعَالَى فَإِنَّ الوَاجِبَ تجنُّـبُه؛ لئَلَّا يُظنَّ باللهِ تَعَالَى ظَنُّ السَّوْءِ، لكِن مَا أثْبَتَهُ اللهُ تعَالَى لنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِـهِ ﷺ فالوَاجِبُ إثْبَاتُهُ، وبَيَانُ بُطـلَانِ وَهْمِ مَنْ تَوهَّـم فِيهِ مَا لَا يَلِيـقُ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
➢ المثَالُ السَّابعُ والثَّامِنُ: قولُهُ تعَالَى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق:١٦]، وقولُهُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾ [الواقعة:٨٥]، حَيْثُ فُسِّرَ القُرْبُ فِيهِمَا بقُرْبِ المَلائِكَةِ.
❍ والجَوَابُ: أنَّ تَفسيرَ القُرْبِ فِيهِمَا بقُرْبِ المَلائِكَةِ لَيْسَ صَرْفًا للكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِمَنْ تَدبَّرَهُ، أمَّا الآيَةُ الأُولَى فَإِنَّ القُرْبَ مُقيَّدٌ فِيهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٦-١٨]، ففِي قولِهِ: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المُرادَ بِهِ قُربُ المَلَكَينِ المُتَلَقِّيَينِ.
⭘ وَأمَّا الآيَةُ الثَّانيَةُ: فإِنَّ القُربَ فِيهَا مُقيَّدٌ بحَالِ الاحْتِضَارِ، وَالَّذِي يحضُرُ الميِّتَ عنْدَ مَوتِهِ هُمُ الملَائِكَةُ؛ لقَولِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام:٦١]، ثُمَّ إنَّ في قَولِهِ: ﴿وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة:٨٥] دليلًا بيِّنًا عَلَى أنَّهُمُ الملائِكَةُ؛ إِذْ يدُلُّ عَلَى أنَّ هذا القَريبَ فِي نَفْسِ المَكَانِ، ولكِنْ لَا نُبصِرُهُ، وَهذا يُعيِّنُ أَنْ يَكُونَ المُرادُ قُربَ الملائِكَةِ؛ لاستِحَالَةِ ذَلِكَ في حَقِّ اللهِ تعَالَى.
� بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فلمَاذَا أضَافَ اللهُ القُربَ إلَيْهِ؟ وَهَلْ جَاءَ نَحْوُ هذا التَّعبيرِ مُرَادًا بِهِ المَلائِكَةُ؟
❍ ⦁ فالجَوابُ: أضَافَ اللهُ تعَالَى قُرْبَ مَلائكَتِهِ إلَيْهِ؛ لأَنَّ قُربَهُم بأمرِهِ، وهُمْ جُنُودُهُ ورُسلُهُ، وقَدْ جَاءَ نحوُ هذا التَّعبيرِ مُرَادًا بِه الملائِكَةُ، كقَولِهِ تعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة:١٨]، فإنَّ المُرادَ بِهِ قِراءَةُ جبريلَ القُرآنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، مَعَ أنَّ اللهَ تعَالَى أضَافَ القِرَاءَةَ إلَيْهِ، لكِنْ لَمَّا كَانَ جِبْريلُ يقَرؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بأمْرِ اللهِ تعَالَى صحَّتْ إضَافَةُ القِراءَةِ إلَيْهِ تَعَالَى.
↫ وكَذَلِكَ جَاءَ فِي قَولِهِ تعَالَى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود:٧٤]، وإبراهِيمُ إنَّمَا كَانَ يُجادِلُ المَلَائكَةَ الَّذِينَ هُمْ رُسُلُ اللهِ
✾ وَصَلْـنَـا إِلَىٰ قَوْلِ الْمُـؤَلِّـفِ - رَحِمَـﮧُ اللَّـﮧُ تعَالـﮯَ -:
➢ المثَالُ التَّاسِعُ والعَاشِرُ: قَولُهُ تَعَالَى عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر:١٤]، وقَولُهُ لمُوسَى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩].
❍ والجَوابُ: أنَّ المَعْنَى فِي هَاتَينِ الآيَتَينِ عَلَى ظَاهِرِ الكَلَامِ وَحَقِيقَتِهِ، لكِنْ مَا ظَاهِرُ الكَلَامِ وحقيقَتُهُ هُنَا؟ هَلْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقيقَتَهُ أنَّ السَّفينَةَ تَجْرِي فِي عَيْنِ اللهِ، أَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام يُربَّى فَوْقَ عَيْنِ اللهِ تعَالَى؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ أنَّ السَّفينَةَ تَجْرِي، وعَينُ اللهِ تَرْعَاهَا وتَكلَؤُهَا، وكذَلِكَ تَربِيَةُ مُوسَى تَكُونُ عَلَى عَيْنِ اللهِ تَعَالَى يَرْعَاهُ ويَكلَؤُهُ بِهَا؟
- ولَا رَيْبَ أنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَينِ:
◄ الأَوَّلُ: أنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ بمُقْتَضَى الخِطَابِ العَربيِّ، والقُرآنُ إنَّما نَزَلَ بلُغَةِ العَرَبِ، قَالَ اللهُ تعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:٢]، وَقَالَ تعَالَى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء:١٩٣-١٩٥]، ولَا أَحَدَ يفْهَمُ مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: «فُلَانٌ يَسِيرُ بعَينِي» أنَّ المَعْنَى: أنَّهُ يَسِيرُ دَاخِلَ عَينِهِ، ولَا مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: «فُلانٌ تَخَرَّجَ عَلَى عَينِي» أنَّ تَخرُّجَه كَانَ وهُوَ رَاكِبٌ عَلَى عينِهِ، وَلَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أنَّ هذا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي هذا الخِطَابِ لضَحِكَ مِنْهُ السُّفهاءُ فَضْلًا عَنِ العُقَلَاءِ.
◄ الثَّاني: أَنَّ هذا مُمتَنِعٌ غَايَةَ الامْتِنَاعِ، وَلَا يُمكِنُ لِمَنْ عَرَفَ اللهَ، وقَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَنْ يَفْهَمَهُ في حَقِّ اللهِ تعَالَى؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُستَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا هُوَ حَالٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ مخْلُوقَاتِهِ، سُبْحَانه وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلوًّا كَبِيرًا.
☜ فَإِذَا تَبيَّنَ بُطلَانُ هذا مِنَ النَّاحيَةِ اللَّفْظيَّةِ والمَعنويَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الكَلَامِ هُوَ القَوْلَ الثَّانِيَ: أَنَّ السَّفينَةَ تجْرِي، وَعَيْنُ اللهِ تَرْعَاهَا وتَكلَؤُهَا، وكذَلِكَ تَربيَةُ مُوسَى تَكُونُ عَلَى عَيْنِ اللهِ يَرعَاهُ ويَكلَؤُهُ بِهَا، وَهذا مَعنَى قَولِ بَعضِ السَّلَفِ: «بمَرْأًى مِنِّي»، فإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ يكلَؤُهُ بعَيْنِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَاهُ، ولَازِمُ المَعْنَى الصَّحِيحِ جُزْءٌ مِنْهُ، كَمَا هُوَ مَعلُومٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، حَيْثُ تَكُونُ بالمُطَابَقَةِ .
صِفَاتِ اللهِ تعَالَى وأسمَائِهِ الحُسنَى❫
✾ قَــالَ الْـمُـؤَلِّــفُ -رَحِمَـﮧُ اللَّـﮧُ تعَالـﮯَ -:
➢ المثَالُ الحَادِيَ عَشَرَ: قَولُهُ تعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدسيِّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلِئَنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
❍ وَالجَوَابُ: أَنَّ هذا الحَدِيثَ صَحِيحٌ، رَوَاهُ البُخاريُّ في بَابِ التَّواضُعِ، الثَّامِنِ والثَّلاثِينَ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ برقم: ❪٦٥٠٢❫، وقَدْ أخَذَ السَّلَفُ أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ بظَاهِرِ الحَدِيثِ، وأجْرَوْهُ عَلَى حقِيقَتِهِ، وَلَكِنْ مَا ظَاهِرُ هذا الحَدِيثِ؟
� هَلْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكُونُ سَمْعَ الوَليِّ وبصرَهُ ويدَهُ ورِجلَهُ؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يُسدِّدُ الوَليَّ فِي سَمْعِهِ وبَصَرِهِ ويدِهِ ورِجلِهِ؛ بحَيْثُ يكُونُ إدراكُهُ وعمَلُهُ للهِ، وباللهِ، وفِي اللهِ؟
⦁ وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ لَيْسَ ظَاهِرَ الكَلَامِ، بَلْ ولَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ لمَنْ تَدَبَّر الحَدِيثَ؛ فَإِنَّ فِي الحَدِيثِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ وَجْهَينِ:
⭘- الوَجْهُ الأَوَّلُ: أنَّ اللهَ تعَالَى قَالَ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، وَقَالَ: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسَتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، فأثْبَتَ عَبْدًا ومَعبُودًا، ومُتقرِّبًا ومُتقرَّبًا إلَيْهِ، وَمُحِبًّا ومَحْبُوبًا، وسَائِلًا ومَسْؤُولًا، ومُعْطيًا ومُعْطًى، ومُستَعِيذًا ومُستَعَاذًا بِهِ، ومُعِيذًا ومُعَاذًا، فَسِيَاقُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اثْنَينِ مُتَبَاينَينِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيرُ الآخَرِ، وَهذا يَمْنَعُ أَنْ يكُونَ أحدُهُمَا وَصْفًا فِي الآخَرِ، أَوْ جُزْءًا مِنْ أجْزَائِهِ.
⭘- الوَجْهُ الثَّانِي: أنَّ سَمْعَ الوَليِّ وبصرَهُ ويدَهُ ورِجْلَهُ كلَّهَا أوصَافٌ أَوْ أجْزَاءٌ فِي مخلُوقٍ حَادِثٍ بعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يُمكِنُ لأَيِّ عَاقِلٍ أَنْ يَفْهَمَ أنَّ الخَالِقَ الأَوَّلَ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يكُونُ سَمْعًا وبَصَرًا وَيَدًا ورِجْلًا لمخْلُوقٍ، بَلْ إِنَّ هذا المَعْنَى تَشمَئِزُّ مِنْهُ النَّفْسُ أَنْ تتصوَّرَهُ، ويَحْسرُ اللِّسَانُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الفَرضِ والتَّقدِيرِ، فكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ ظَاهِرُ الحَدِيثِ القُدسيِّ، وإِنَّهُ قَدْ صُرِفَ عَنْ هذا الظَّاهِرِ؟! سبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبحمْدِكَ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.